سيرالية الواقع

لم أصدّق وجود كل هذه اللوحات السيريالية داخل غرفته ، لم أكن أفهمها مع أن دراستنا للفنون كانت مشتركة وكنا نتشارك الأراء حول لوحاتنا وندخل المرسم في الجامعة سويا ونخرج منه سوياً ، فقد اعتاد ان يرسم اللوحات بطريقة واقعية ويتباهى بمقدار واقعيتها ومحاكتها للطبيعة أمام زملائنا في الجامعة ويردد بفخر انه تلميد في مدرسة الفنان " رمبرانت " الواقعية .. تُرى ما الذي جعله يغير اسلوبه هكذا؟ ومتى رسم كل هذه اللوحات السيريالة الطابع والفكر والشكل ؟

كعادتي أنا وهو وكعادة اي خطيبان ينتميان للطبقة المتوسطة ، نجلس في الصالون واختي الصغيرة جالسة ترقبنا لا تبتعد لو للحظات فقد اخذت اوامر عليا ان لا تترك الغرفة حتى لا يخلو الجو لنا ، هكذا كانت تقاليد الاسرة المحافظة دائما ...

ابتلع خطيبي ريقه واقترب مني في اندهاش حملق بوجهي بغرابة ولم يعر اهتماماً باختي التي استغربت تصرفه هذا وأخذت تخزن ما يفعله في عقلها لتركض بعد قليل مخبرة به والديّ كنوع من انواع " الفتنة " التي اعتاد عليها الاطفال ..

كنت اركز مع رد فعل اختي اكثر مما كنت اركز في تصرفاته هذه .. يميل رأسه واذناه وكأنه يحاول التقاط او سماع شيء في الاجواء المحيطة بي .. ثم فجأة امسك بمعصمي وقال لي توقفي وسحبني نحو الباب وفتحه واخذني لسيارته المتواضعة ركبنا بها وانا اسمع صوت اختي من بعيد وهي تنادي .. ابي امي .... لقد اخذها وخرج ... لقد اخذها وخرج ..

_ اين تأخذني
_ لا تسألي لن اجيب
_ حسنا انا من حقي ان اعرف ما هذا التصرف المجنون ؟
نظرت فوجدت السيارة قد توقفت امام مبنى كتب عليه " مستشفى الشروق الخاص "
نزلت معه وطالب بعمل فحوصات شاملة لي ...
اثناء الفحوصات كانت يداه ترتعشان والعرق يتصبب منه وانا اتمدد على منضدة الاشعة ..
في النهاية قال له الاطباء .. ليس بها شيء
_ لا انا متأكد انها مريضه قد تكون هذه التحاليل مغلوطة
انا صرخت في وجهه قائلة : يكفي هذا انا بخيررررر
قال الطبيب هامسا له في اذنيه : اعتقد انك تبالغ في التعبير عن مشاعرك لخطيبتك بهذه الطريقه السخيفة .. هي تعلم انك تحبها وتقلق عليها بدون كل هذه المسرحية .. كن طبيعيا ولا تبالغ فالنساء لا تحترم الرجل القلق
_ شكرا على نصحك وتهذيبك

واخذني وغادر المشفى .. في عجالة وارتباك فهو لا يصدق ايا من الفحوصات ولا التحاليل هو لا يصدق سوى حدسه
كان يعلم اني سأموت وشيء ما يخبره بهذا ولكن كيف ومتى سأموت لا يعلم

كان يقود السيارة بحذر شديد وكأنه اول يوم له في القيادة
_ قف هنا اريد شراء مثلجات حلقي جف وتعبت من كثرة الركض معك
_ ستكون مسممة بالتأكيد
_ ما هذا ماذا بك

كل هذه الامور كانت تؤكد لي انه جن جنونه ولكنني لم استسلم لتلك الافكار
تركني امام بيتي وغادر ..

في المساء اتصل بي .. واخبرني انه " حلم اني توفيت والعياذ بالله "

هذا الحديث بقدر ما ارعبني الا انه اراحني الى حد ما وبرر لي كل تصرفاته المجنونة التي قام بها والتي وبخني والداي عليها بعد عودتي للمنزل

كان الامر مذهلا ولا يصدق لكنه قد قرأ كثيرا في هذه الامور .. كثيرا ما كانت والدتي تخبرني بان الاحلام السيئة اذا حكيناها تصبح حقيقة .. اذا لم يكن يجب عليّ ان اطلب تفسيرا لما فعله .. ليتني لم اضطره الى ان يحكي بالتأكيد هو يعلم انه ان حكا فسيحدث لي مكروها لقد بت اخاف اليوم من معرفتي لتفسير افعاله اكثر مما كنت اجهلها ..

في اليوم التالي
قررت ان اذهب لزيارته في منزله .. هكذا انتابني ذلك الشعور .. شعرت انى بحاجته اكثر من اي وقت مضى وانتابتني نوبات اقتراب النهاية فعلا .. كل ما اريده الان هو ان اراه فقط

طرقت باب المنزل .. فتحت لي والدته .. استغربت وجودى في هذه الساعة فليس من العادي زيارة احد في الساعة العاشرة صباحا وبدا على وجهها الف علامة استفهام ...

_ اين احمد ؟
_ خرج ياعزيزتي ..

بعد معرفتي بامر خروجه خطر ببالي ان اقذف اي سبب لمجيئي في هذا الوقت الغريب ولابد ان يكون امر جلل ..

_ حسنا انا جئت هنا للضرورة حيث انا اليوم ذاهبة لمقابلة مدير احد قصور الثقافة واريد بعضا من لوحاتي التي يحتفظ بها احمد لأريه اياها هو طلب ان يرى اللوحات وليس صور اللوحات التي احتفظ بها على حاسوبي
_ حسنا ياابنتي اطلعي لغرفته وستجدينها في مكان بجوار سريره
_ شكرا لكِ

بمجرد ان فتحت باب الغرفة حتى صعقت من كمية اللوحات السيريالية الغريبة . استغربت متى رسمها ؟ وما هذه المخلوقات التى تتكرر في كل لوحاته .. ؟

هناك شيء جد عليه انا لا افهمه وهو لا يتكلم ولا يجيب على أسئلتي .. ربما لاني لو علمت الاجابة لحدث لي مكروه مثل ما اعتقدت البارحة .. وهذا ما اتى بي الى هنا ..

اصابتني قشعريرة ورجفة وبرود في الاطراف بمجرد تواجدى في غرفته المليئة باللوحات المبهمة
ودوران وسرعان ما ازدادت ضربات قلبي ..

وتعجبت كيف يتحمل كل هذه الطاقة السلبية التي تنتشر في كل زوايا غرفته ..
اتجهت ناحية الباب فوجدت احمد في وجهي
وقد اصفر وجهة وبدا غير مرحب بي على الاطلاق في غرفته وكأنه اخذ السلم ركضا وامسكنى من ذراعي : ما الذي اتى بكِ الى هنااااااااااااااااااا؟ ومن سمح لك برؤية تلك اللوحات ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
اصابني الذعر بشدة وهرولت مسرعة ناحية المطبخ الذي تقف امه فيه واستعنت بها لتحسم الامر وتوقفه عن الصراخ
_ لا عليك ياابنتي فهو يصرخ هكذا دائما
_ لم يكن هكذا ابدا ايام الجامعة ما الذى حدث له ؟
_ منذ تلك الحادثة حين سقطت السيارة في الترعة عندما كان ذاهب في زيارة اقاربنا في الريف وهو تنتابه بعض النوبات الغريبة
صرخ احمد : لا انا طبيعي جدا انتِ الغريبة الاطوار كان لا يجب ان تشاهدي لوحاتي
_ من متى وانت ترسم بهذه الطريقة هناك شيء ما في حياتك واريد معرفته
_ لا شيء انت مدققة زيادة عن اللزوم
هيا لاعيدك للمنزل ..
_ ساعود بمفردي
_ انا ساعيدك لاطمئن عليكِ

اعادني فعلا الى المنزل ولكن من بعدها وحالتي تزداد سوءا .. يصفر وجهي واصرخ مساءً وافيق على اصوات مواء الهررة وكأنها تناديني . كانت هذه هي ترجمة حديث الهررة حين سمعتها ...

" انتِ هرة مثلنا نريدكِ في عالمنا .. مياااو مياااو انتِ هرة في صورة بشر ويوم ما ستعودين لطبيعتك القططية مثلنا مياااااااااو ميااااااااااااو.."

واحيانا اخرى اشعر بتأنيب الضمير على امور سيئة حدثت لي فاقوم بوخز يدى بدبابيس الطرح التى ارتديها كحجاب ..
لاحظ خطيبي عليّ هذا التغير .. علم ان تلك اللوحات قد صبت لعناتها عليّ بعدما رأيتها .. هو ادرك ذلك تماما .. وادرك ان صحتي ستتدهور قريبا .. هو يعلم النتائج .. هو يعلم كل شيء .. لهذا صرخ عندما وجدني في غرفته وكاد يبكي .. كان يريد ان يمنع تتلك اللعنات من الوقوع

غادر بعد لمحت في عيناه دموع غريبة محبوسة .. غادر وحسب
ولم اره من يومها .. انهالت عليه اهانات ابي وامي .. انه وغد ونذل .. شعروا بالاهانة ..
ولكني لم اشعر بها ابدا فقد علمت انه غادر لسبب
وغادر مرغماً .. غادر وقلبه ينزف دما .. وغادر وهو يحبني ..

انتابتني بعدها حالة مرضية انتابت قلبي .. عمليات تلو اخرى كنت احيانا اعتقد انني لن انجو .. ولكن برحمة الله نجوت .. وازادت صحتي تحسنا ووجهي ورد واصبحت بحال افضل ..
حتى الهررة لم اعد اسمع موائاتها ليلا ولم استطع ترجمة تلك الموائات

بعد سنتين وجدت رسالة داخل حقيبة قديمة كنت ارتديها في آخر يوم كان خطيبي معي فيه ..

"تلك الهالة السلبية التي نزلت عليكِ من بعد مشاهدتك للوحات اللعينة التي رسمت عليها مخلوقات فيروزية اللون وغريبة هي السبب في مرضك وحالات الهلوسة والاكتئاب التي انتابتك ِ .. انتِ مصابة الان بمرض فرط الحساسية تجاهي فكلما اقتربت منكِ كلما ازدادت حالتك سوءا .. فأنا من رسم تلك اللوحات وانا من سبب لكِ الاذى دون قصد . هالتي السلبية لا تناسب هالتك اطلاقا ...أنا اتنبأ بقرب حلول الموت لاني اشاهد علاماته واسمع اصوات الاطياف تقترب اصبحت هكذا منذ حادثة الترعة .. اعلم ان كلامي غير مقنع عمليا ولكن اعلم انكِ ستكونين بخير عندما ابتعد عنكِ .. اقرئي عن هذا العالم ظنه الناس مجنونا اسمه" ليد بيتر ." ولكنه للاسف ليس مخرفا او مجنونا .. وستقتنعين بمحتوى رسالتي هذا حينما تكونين بصحة جيدة فيا بعد ..
احمد "